فصل: تفسير الآيات (13- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (13- 24):

{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
{يَوْمَ يَقُولُ} هو بدل من {يَوْمَ تَرَى} {المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا} أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة. {أَنظُرُونَا} حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به {قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً} طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. قيل: هو الأعراف {لَهُ} لذلك السور {بَابٍ} لأهل الجنة يدخلون منه {بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة {فِيهِ الرحمة} أي النور أو الجنة {وظاهره} ما ظهر لأهل النار {مِن قِبَلِهِ} من عنده ومن جهته {العذاب} أي الظلمة أو النار {ينادونهم} أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون مرافقتهم في الظاهر {قَالُواْ} أي المؤمنون {بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق وأهلكتموها {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر {وارتبتم} وشككتم في التوحيد {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار {حتى جَاء أَمْرُ الله} أي الموت {وَغَرَّكُم بالله الغرور} وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب.
{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ} وبالتاء: شامي {مّنكُمْ} أيها المنافقون {فِدْيَةٌ} ما يفتدى به {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار} مرجعكم {هِىَ مولاكم} هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال: هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم {وَبِئْسَ المصير} النار.
{أَلَمْ يَأْنِ} من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته. قيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه: إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} بالتخفيف: نافع وحفص. الباقون {نَزَّلَ} و(ما) بمعنى (الذي)، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} القراءة بالياء عطف على {تَخْشَعَ} وبالتاء: ورش على الالتفاف، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} الأجل أو الزمان {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} باتباع الشهوات {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} بتشديد الدال وحده: مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من (صدق) وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين. الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من (تصدق) فأدغمت التاء في الصاد وقرئ على الأصل {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} هو عطف على معنى الفعل في {المصدقين} لأن اللام بمعنى (الذين) واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة {يُضَاعَفُ لَهُمُ} {يضعف} مكي وشامي {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي الجنة {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم، ويجوز أن يكون {والشهداء} مبتدأ و{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبره {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.
{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان {فِى الأموال والأولاد} أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد خضرته {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} متفتتاً، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. وقيل: الكفار الزراع {وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار {وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان} للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد.
والكاف في {كَمَثَلِ غَيْثٍ} في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} لمن ركن إليها واعتمد عليها. قال ذو النون: يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها.
ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله {سَابِقُواْ} أي بالأعمال الصالحة {إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} وقيل: سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} قال السدي: كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين. وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول: إن الجنة في السماء الرابعة، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} وهذا دليل على أنها مخلوقة {ذلك} الموعود من المغفرة والجنة {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} وهم المؤمنون، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله {والله ذُو الفضل العظيم}.
ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} من الجدب وآفات الزروع والثمار. وقوله {فِى الأرض} في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد {إِلاَّ في كتاب} في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} من قبل أن نخلق الأنفس {إِنَّ ذلك} إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب {عَلَى الله يَسِيرٌ} وإن كان عسيراً على العباد. ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله:
{لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} تحزنوا حزناً يطغيكم {على مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها {وَلاَ تَفْرَحُواْ} فرح المختال الفخور {بِمَا ءاتاكم} أعطاكم من الإيتاء. أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً والحزن صبراً، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس {الذين يَبْخَلُونَ} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي {فَإِنَّ الله هُوَ الغنى} عن جميع المخلوقات فكيف عنه؟ {الحميد} في أفعاله.
{فَإِنَّ الله الغنى} بترك (هو): مدني وشامي.

.تفسير الآيات (25- 29):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء {بالبينات} بالحجج والمعجزات {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي الوحي. وقيل: الرسل الأنبياء. والأول أولى لقوله {مَعَهُمْ} لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب {والميزان} رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به {لِيَقُومَ الناس} ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء {بالقسط} بالعدل ولا يظلم أحد أحداً {وَأَنزْلْنَا الحديد} قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة. ورُوي ومعه المرّ والمسحاة. وعن الحسن: وأنزلنا الحديد خلقناه {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به {ومنافع لِلنَّاسِ} في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين. وقال الزجاج: ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله {بالغيب} غائباً عنهم {إِنَّ الله قَوِىٌّ} يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته {عَزِيزٌ} يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته. والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان. ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد. وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم} خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِمَا} أولادهما {النبوة والكتاب} الوحي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الخط بالقلم. يقال: كتب كتاباً وكتابة {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين {مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم} أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء {بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وءاتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً} مودة وليناً {وَرَحْمَةً} تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] {وَرَهْبَانِيَّةً} هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف. فعلان من رهب كخشيان من خشي.
وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية {ابتدعوها} أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه {فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} الكافرون.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} الخطاب لأهل الكتاب {اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ} الله {كِفْلَيْنِ} نصيبين {مّن رَّحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله {وَيَجْعَل لَّكُمْ} يوم القيامة {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله {يسعى نُورُهُم} الآية {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ} ليعلم {أَهْلِ الكتاب} الذين لم يسلموا و(لا) مزيدة {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} (أن) مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون {على شَئ مّن فَضْلِ الله} أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط {وَأَنَّ الفضل} عطف على {أَن لا يَقْدِرُونَ} {بِيَدِ الله} أي في ملكه وتصرفه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} من عباده {والله ذُو الفضل العظيم}، والله أعلم.

.سورة المجادلة:

.تفسير الآيات (1- 7):

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
{قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ} تحاورك وقرئ بها، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه. ورُوي أنها قالت: إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما عندي في أمرك شيء» وروي أنه قال لها: «حرمت عليه» فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ. فقال: حرمت عليه فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت عليه» هتفت وشكت فنزلت {فِى زَوْجِهَا} في شأنه ومعناه {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} تظهر ما بها من المكروه {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} مراجعتكما الكلام من حار إذا رجع {إِنَّ الله سَمِيعٌ} يسمع شكوى المضطر {بَصِيرٌ} بحاله {الذين يظاهرون} عاصم {يظَّهرون}: حجازي وبصري غيرهم {يظاهرون} وفي {مّنكُمْ} توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم {مِن نّسَائِهِمْ} زوجاتهم {مَّا هُنَّ أمهاتهم} أمهاتهم المفضل، الأول حجازي والثاني تميمي {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة حرمتهن، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول} تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية {وَزُوراً} وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منهم.
{والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} بين في الآية الأولى أن ذلك من قائله منكر وزور، وبين في الثانية حكم الظهار {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} العود الصيرورة ابتداء أو بناء فمن الأول قوله تعالى: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} [يس: 39]. ومن الثاني: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] ويعدى بنفسه كقولك: عدته إذا أتيته وصرت إليه، وبحرف الجر ب (إلى) وعلى وفي واللام كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] ومنه {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه على حذف المضاف، وعن ثعلبة: يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف أيضاً غير أنه أراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه كقوله {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أراد المقول فيه وهو المال والولد.
ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل؟ فعندنا بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة، وعند الشافعي بمجرد الإمساك وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار.
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاً {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها. والمماسة الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة {ذلكم} الحكم {تُوعَظُونَ بِهِ} لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. وإذا وضع موضع أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول: أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع، أو عمتي من النسب، أو امرأة ابني، أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضر بها في ترك التكفير. والامتناع من الاستمتاع فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} فعليه صيام شهرين {مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} الصيام {فَإِطْعَامُ} فعليه إطعام {سِتّينَ مِسْكِيناً} لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره، ويجب أن يقدمه على المسيس ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام {ذلك} البيان والتعليم للأحكام {لّتُؤْمِنُواْ} لتصدقوا {بالله وَرَسُولِهِ} في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ} أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة {حُدُودَ الله} التي لا يجوز تعديها {وللكافرين} الذين لا يتبعونها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} يعادون ويشاقون {كُبِتُواْ} أخزوا وأهلكوا {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من أعداء الرسل {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به {وللكافرين} بهذه الآيات {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب ب {مُّهِينٌ} أو بإضمار (اذكر) تعظيماً لليوم {الله جَمِيعًا} كلهم لا يترك منهم أحداً غير مبعوث أو مجتمعين في حال واحدة {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد {أحصاه الله} أحاط به عدداً لم يفته منه شيء {وَنَسُوهُ} لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظمات الأمور {والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ} لا يغيب عنه شيء.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض مَا يَكُونُ} من (كان) التامة أي ما يقع {مِن نجوى ثلاثة} النجوى التناجي وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر {إِلاَّ هُوَ} أي الله {رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى} ولا أقل {مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه وقد تعالى عن المكان علواً كبيراً وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين. وقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} فدل على الاثنين والأربعة، وقال: {وَلاَ أَكْثَرَ} فدل على ما يقارب هذا العدد {أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} فيجازيهم عليه {إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ}.